الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي؛ كأبي المعالي، وغيره، وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد. ومنهم من يقول: إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره؛ لأنه لم يفهم معانى النصوص العامة التي هي أقوال اللّه ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن اللّه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد. / مثال ذلك: أن لله حرم الخمر، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة، ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك أو حرم معه بعض الأنبذة المُسْكرة، كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة، فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزَّبَد، وهذا الخمر عنده، ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه. ويحرم النيئ من نبيذ التمر، فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده. وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرًا عنده مع أنها حرام، وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر. وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيره، وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة، وهو اختيار أبي الليث السَّمَرْقَنْدي. ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس؛ إما في الاسم، وإما في الحكم، وهذه الطريقة التي سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء، أو القياس في الحكم. والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر بالنص العام /والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلًا آخر يوافق النص، وثبتت ـ أيضًا ـ نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل مسكر، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، وفي الصحيحين عن أبي موسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: عندنا شراب من العسل يقال له: البِتْع [البِتْعُ ـ بسكون التاء: نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن. وقد تحرك التاء كقِمْع وقِمعٍ] ، وشراب من الذرة يقال له: المِزْر [المِزْرُ ـ بكسر الميم وسكون الزاي وضم الراء ـ: نبيذ يتخذ من الذرة، وقيل: من الشعير أو الحنطة] ؟ قال: وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال: (كل مسكر حرام) إلى أحاديث أخر يطول وصفها. وعلى هذا، فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص، وكان هذا النص متناولًا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت؛ من الحبوب أو الثمار، أو من لبن الخيل، أو من غير ذلك. ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال: إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب، بل كان ذلك ثابتًا بالقياس، وهؤلاء غلطوا في فهم النص. ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حُرِّمت لم يكن بالمدينة / من خمر العنب شيء؛ فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب وإنما كان عندهم النخل، فكان خمرهم من التمر، ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر، وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم، فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصًا بعصير العنب، وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول، أو كانوا عرفوا التعميم ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه المبين عن الله مراده، فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف، يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة، وتارة فيما هو أخص. وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنِّرْد والشطرنج، ويتناول بيوع الغَرَر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيها معني القمار الذي هو مَيْسِر؛ إذ القمار معناه: أن يوخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه، أو لا يحصل؟ كالذي يشتري العبد الآبِق، والبعير الشارد، وحَبَلَ الحِبْلَة، ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له، وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله ـ تعالى ـ يتناول هذا كله، وما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر يتناول كل ما فيه مخاطرة، كبيع الثمار قبل بَدْوِ صلاحها وبيع الأجنة في البطون، وغير ذلك. ومن هذا الباب: لفظ الربا، فإنه يتناول كل ما نهى عنه من ربا / النَّسَأ وربا الفضل؛ والقرض الذي يَجُرُّ منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله، لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك، وهذا الذي يسمي: تحقيق المناط. وكذلك قوله تعالى: وكذلك قوله تعالى: وكذلك الكلام في عامة مسائل النزاع بين المسلمين إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك، وتبين أن النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال. وكان الإمام أحمد يقول: إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها، والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص، كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ويحتجون بالقياس الصحيح ـ أيضًا. والقياس الصحيح نوعان: أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرق غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فَأْرة وقعت في سَمْن فقال: [ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم] ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصًا بتلك الفأرة وذلك السمن؛ فلهذا قال جماهير العلماء: إنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأَدْهَان، كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهِرِّ الذي يقع في السمن فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن. ومن قال من/ أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن فقد أخطأ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة لكن لما استفتي عنها أفتي فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو نوع فأجاب المفتي عن ذلك خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم. ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبَّةٌ مُضَمَّخة بخَلُوق فقال: [انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك] ، فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالإجماع. والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعني من المعاني، ويكون ذلك المعني موجودًا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعني المشترك بين الأصل والفرع سوي بينهما، وكان هذا قياسًا صحيحًا. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما، وهما من باب فَهْم مراد الشارع؛ فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعني المشترك لا لمعنى يخص / الأصل أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره. وإذا عَيَّنَ الشارع مكانًا أو زمانًا للعبادة كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل إلىمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة فقال تعالى: وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل مَنْ الحق / منصوصًا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد، وكل من سوي بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد، لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره. فمن أبطل القياس مطلقًا فقوله باطل، ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل، ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته. فالحجج الأَثَرِية والنظرية تنقسم إلى: ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتي يقوم الدليل على أحدهما. ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين. ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله: والقياس الصحيح من باب العدل؛ فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسًا صحيحًا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح. / ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر؛ لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعني، وهذا المعني موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب. فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص، وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافقه اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر. وغلطوا في فهم النص ـ وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم - ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: والكلام في ترجيح نُفَاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه، لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا . والله أعلم.
/وقــال: العبادات المأمور بها؛ كالإيمان الجامع، وكشعبه مثل: الصلاة والوضوء والاغتسال والحج والصيام والجهاد والقراءة والذكر، وغير ذلك، لها ثلاثة أحوال، وربما لم يشرع لها إلا حالان؛ لأن العبد إما أن يقتصر على الواجب فقط، وإما أن يأتي بالمستحب فيها، وإما أن ينقص عن الواجب فيها. فالأول: حال المقتصدين فيها وإن كان سابقًا في غيرها. والثاني: حال السابق فيها. والثالث: حال الظالم فيها. والعبادة الكاملة تارة تكون ما أدي فيها الواجب، وتارة ما أتي فيها بالمستحب. وبإزاء الكاملة الناقصة، قد يعني بالنقص نقص بعض واجباتها، وقد يعني به ترك بعض مستحباتها. فأما تفسير الكامل بما كمل بالمستحبات فهو غالب استعمال الفقهاء في الطهارة والصلاة، وغير ذلك؛ فإنهم يقولون: الوضوء ينقسم إلى: كامل، ومجزي. والغسل ينقسم إلى: كامل، ومجزي. ويرى دون بالمجزي: الاقتصار / على الواجب، وبالكامل: ما أتي فيه بالمستحب في العدد والقدر والصفة، وغير ذلك. ولذلك استعملوا ما جاء في حديث ابن مسعود مرفوعًا: [إذا قال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا فقد تم سجوده، وذلك أدناه]، فقالوا: أدنى الكمال ثلاث تسبيحات، يعنون: أدني الكمال المسنون. وقالوا: أقل الوتر ركعة وأدنى الكمال ثلاث، فجعلوا للكمال أدنى وأعلى، وكلاهما في الكمال المسنون لا المفروض. ثم يختلفون في حرف النفي الداخل على المسميات الشرعية، كقوله: (لا قراءة إلا بأم الكتاب)، (ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)، (ولا صلاة لمن لا وضوء له)، (ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)، فأكثرهم يقولون: هو لنفي الفعل، فلا يحزى مع هذا النفي. ومنهم من يقول: هو لنفي الكمال. يرى دون نفي الكمال المسنون. وأما تفسيره بما كمل بالواجب فهو في عرف الشارع، لكن الموجود فيه كثيرًا لفظ التمام، كقوله: والنقص بإزاء التمام والكمال كقوله: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاجُ)، فالجمهور يقولون: هو نقص الواجبات؛ لأن الخداج هو الناقص في أعضائه وأركانه. وآخرون يقولون: هو الناقص عن كماله المستحب؛ فإن النقص يستعمل في نقص الاستحباب كثيرًا، كما تقدم في تقسيم الفقهاء الطهارة إلى: كامل، ومجزي ليس بكامل، وما ليس بكامل فهو ناقص. وقوله: (فقد تم ركوعه وسجوده وذلك أدناه)، ما لم يتم فهو ناقص، وإن كان مجزئًا. ثم النقص عن الواجب نوعان: يُبْطِلُ العبادة؛ كنقص أركان الطهارة والصلاة والحج. ونقص لا يبطلها، كنقص واجبات الحج التي ليست بأركان، ونقص واجبات الصلاة إذا تركها سهوًا على المشهور عند أحمد، ونقص الواجبات التي يسميه أبو حنيفة فيها مُسِيئًا، ولا تبطل / صلاته، كقراءة الفاتحة، ونحوها. وبهذا تزول الشبهة في [مسائل الأسماء والأحكام] وهي مسألة الإيمان وخلاف المرجئة والخوارج؛ فإن الإيمان، وإن كان اسمًا لدين الله الذي أكمله بقوله: وإذا قلنا في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، و: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، وقوله: وكذا المؤمن المطلق هو المؤدي للإيمان الواجب، ولا يلزم من كون إيمانه ناقصًا عن الواجب أن يكون باطلًا حابطًا، كما في الحج، ولا أن يكون معه الإيمان الكامل كما تقوله المرجئة، ولا أن يقال: ولو أدي الواجب لم يكن إيمانه كاملًا، فإن الكمال المنفي هنا الكمال المستحب. فهذا فرقان يزيل الشبهة في هذا المقام، ويقرر النصوص كما جاءت، وكذلك قوله: (من غشنا فليس منا)، ونحو ذلك، لا يجوز أن يقال فيه: ليس من خِيَارنا كما تقوله المرجئة، ولا أن يقال: صار من غير المسلمين فيكون كافرًا كما تقوله الخوارج، بل الصواب أن هذا الاسم المضمر ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب، ولهم الموالاة المطلقة والمحبة المطلقة، وإن كان لبعضهم درجات في ذلك بما فعله من المستحب، فإذا غشهم لم يكن منهم حقيقة؛ لنقص إيمانه الواجب الذي به يستحقون الثواب المطلق بلا عقاب، ولا يجب أن يكون من غيرهم مطلقًا، بل معه من الإيمان ما يستحق به مشاركتهم في بعض الثواب، ومعه من الكبيرة ما يستحق به العقاب، كما يقول من استأجر قومًا ليعملوا عملًا، فعمل بعضهم بعض الوقت، فعند التَّوْفِيَة يصلح أن يقال: هذا ليس منا، فلا يستحق / الأجر الكامل، وإن استحق بعضه. وقد بسطتُ القول في هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينت ارتباطها بقاعدة كبيرة في أن الشخص الواحد، أو العمل الواحد يكون مأمورًا به من وجه، منهيًا عنه من وجه، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافًا للخوارج والمعتزلة، د وافقهم طائفة من أهل الإثبات؛ متكلميهم وفقهائهم من أصحابنا وغيرهم في مسألة العمل الواحد في أصول الفقه، فقالوا: لا يجوز أن يكون مأمورًا به، منهيًا عنه. وإن كانوا مخالفين لهم في مسألة الشخص الواحد في أصول الدين، ولا ريب أن إحدي الروايتين عن أحمد أن هذا العمل لا يجزئ، وهي مسألة الصلاة في الدار المغْصُوبَة، وفي الرواية الأخري يجزي، كقول أكثر الفقهاء. لكن من أصحابنا من جعلها عقلية ورأي أنه لا يمتنع ذلك عقلًا، وهو قول أكثر المعتزلة، وكثير من الأشعرية؛ كابن الباقلاني، وابن الخطيب. فالكلام في مقامين: في الإمكان العقلي، وفي الإجْزَاء الشرعي. والناس فيها على أربعة أقوال: منهم: من يقول: يمتنع عقلًا ويبطل شرعًا. وهو قول طائفة من/ متكلمي أصحابنا وفقهائهم. ومنهم: من يقول: يجوز عقلًا، لكن المانع سمعي. وهذا قد يقوله ـ أيضًا ـ من لا يرى الإجزاء من أصحابنا ومن وافقهم، وهو أشبه عندي بقول أحمد؛ فإن أصوله تقتضي أنه يجوز ورود التعبد بذلك كله، وهذا هو الذي يشبه أصول أهل السنة وأئمة الفقه. ومنهم: من يجوزه عقلًا وسمعًا كأكثر الفقهاء. ومنهم: من يمنعه عقلًا لكن يقول: ورد سمعًا، وهذا قول ابن البَاقِلاَّني وأبي الحسن وابن الخطيب؛ زعموا أن العقل يمنع كون الفعل الواحد مأمورًا به، منهيًا عنه، ولكن لما دل السمع؛ إما الإجماع، أو غيره على عدم وجوب القضاء قالوا: حصل الإجزاء عنده لا به. وهذا القول عندي أفسد الأقوال. والصواب أن ذلك ممكن في العقل، فأما الوقوع السمعي فيرجع فيه إلى دليله، وذلك أن كون الفعل الواحد محبوبًا مكروهًا، مرضيًا مسخوطًا، مأمورًا به، منهيًا عنه، مقتضيًا للحمد والثواب والذم والعقاب، ليس هو من الصفات اللازمة كالأسود والأبيض، والمتحرك والساكن، والحي والميت، وإن كان في هذه الصفات كلام ـ أيضًا. وإنما هو من / الصفات التي فيها إضافة متعدية إلى الغير، مثل كون الفعل نافعًا وضارًا ومحبوبًا ومكروهًا، والنافع هو الجالب للذة، والضار هو الجالب للألم، وكذلك المحبوب هو الذي فيه فرح ولذة للمحب مثلًا، والمكروه هو الذي فيه ألم للكاره؛ ولهذا كان الحُسْنُ والقُبْح العقلي معناه المنفعة والمَضَرَّة، والأمر والنهى يعودان إلى المطلوب والمكروه، فهذه صفة في الفعل متعلقة بالفاعل أو غيره، وهذه صفة في الفعل متعلقة بالآمر الناهي. ولهذا قلت غير مرة: إن حُسْنَ الفعل يحصل من نفسه تارة، ومن الآمر تارة، ومن مجموعهما تارة. والمعتزلة ـ ومن وافقهم من الفقهاء أصحابنا وغيرهم الذين يمنعون النسخ قبل التمكن من الفعل ـ لا يثبتون إلا الأول، والأشعرية ـ ومن وافقهم من الفقهاء أصحابنا وغيرهم الذين لا يثبتون للفعل صفة إلا إضافة لتعلق الخطاب به ـ لا يثبتون إلا الثاني. والصواب إثبات الأمرين. وقَدْرٌ زائد يحصل للفعل من جنس تعلق الخطاب غير تعلق الخطاب، ويحصل للفعل بعد الحكم، فالخطاب مظهر تارة، ومؤثر تارة، وجامع بين الأمرين تارة. وبسط هذا له موضع آخر. وإذا كان كذلك فنحن نعقل، ونجد أن الفعل الواحد من الشخص أو من غيره يجلب له منفعة ومضرة معًا، والرجل يكون له عَدُوَّان / يقتل أحدهما صاحبه، فيَسُرُّ من حيث عدم عدو، ويساء من حيث غلب عدو. ويكون له صديقان يعزل أحدهما صاحبه، فيساء من حيث انعزال الصديق، ويسر من حيث تولي صديق. وأكثر أمور الدنيا من هذا؛ فإن المصلحة المحضة نادرة، فأكثر الحوادث فيها ما يسوء ويسر، فيشتمل الفعل على ما ينفع ويحب ويراد ويطلب، وعلى ما يضر ويبغض ويكره ويدفع. وكذلك الآمر يأمر بتحصيل النافع، وينهى عن تحصيل الضار، فيأمر بالصلاة المشتملة على المنفعة، وينهى عن الغضب المشتمل على المضرة. فإذا قالوا: الممتنع أن يأمره بفعل واحد من وجه واحد، فيقول: صَلِّ هنا ولا تصل هنا، فإن هذا جمع بين النقيضين، والجمع بين النقيضين ممتنع؛ لأنه جمع بين النفي والإثبات، فقد يقال لهم: الجمع بين النقيضين ممتنع في الخبر، فإذا قلت: صلى زيد هنا، لم يصل هنا امتنع ذلك؛ لأن الصلاة هنا إما أن تكون، وإما ألا تكون، وكونها هو عينها وما يتبعه من الصفات اللازمة التي ليس فيها نسبة وإضافة وتعلق، فأما الجمع بينهما في الإرادة والكراهة والطلب والدفع والمحبة والبغضة والمنفعة والمضرة فهذا لا يمتنع؛ فإن وجود الشيء قد يكون مرادًا ويكون عدمه مرادًا ـ أيضًا، إذا كان في كل منهما منفعة للمريد، ويكون ـ أيضًا ـ وجوده أو عدمه مرادًا مكروهًا، بحيث يلتذ العبد ويتألم بوجوده وبعدمه، كما قيل: / الشَّيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن نفارقه ** فأعجب لشيء على البغضاء محبوب فهو يكره الشيب ويبغضه لما فيه من زوال الشباب النافع ووجود المشيب الضار، وهو يحبه ـ أيضًا ـ ويكره عدمه لما فيه من وجود الحياة، وفي عدمه من الفناء. وهذه حال ما اجتمع فيه مصلحة ومفسدة من جميع الأمور، لكن التحقيق أن الفعل المعين كالصلاة في الدار المعينة لا يؤمر بعينها، وينهى عن عينها؛ لأنه تكليف ما لا يطاق، فإنه تكليف للفاعل أن يجمع بين وجود الفعل المعين وعدمه، وإنما يؤمر بها من حيث هي مطلقة، وينهى عن الكون في البقعة، فيكون مورد الأمر غير مورد النهى ولكن تلازما في المعين، والعبد هو الذي جمع بين المأمور به والمنهى عنه، لا أن الشارع أمره بالجمع بينهما، فأمره بصلاة مطلقة، ونهاه عن كون مطلق. وأما المعين فالشارع لا يأمر به ولا ينهى عنه، كما في سائر المعينات، وهذا أصل مطرد في جميع ما أمر الله به من المطلقات بل في كل أمر؛ فإنه إذا أمر بعتق رقبة مطلقة، كقوله: فالمعين فيه شيئان: خصوصُ عَيْنه، والحقيقة المطلقة، فالحقيقة المطلقة هي الواجبة، وأما خصوص العين فليس واجبًا، ولا مأمورًا به، وإنما هو أحد الأعيان التي يحصل بها المطلق، بمنزلة الطريق إلى مكة، ولا قصد للآمر في خصوص التعيين. وهذا الكلام مذكور في مسألة الواجب على التخيير، والواجب المطلق، والواجب المعين. والفرق بينها أن الواجب المخير قد أمر فيه بأحد أشياء محصورة، والمطلق لم يؤمر فيه بأحد أشياء محصورة، وإنما أمر بالمطلق؛ ولهذا اختلف في الواجب المخير فيه: هل الواجب هو القدر المشترك كالواجب المطلق؟ أو الواجب هو المشترك والمميز ـ أيضًا ـ على التخيير؟ فيه وجهان، والمشترك هو كونه أحدها، فعلى هذا ما تميز به أحدها عن الآخر لا يثاب عليه ثواب الواجب، بخلاف ما إذا قيل: المتميز واجب ـ أيضًا ـ على البدل، وأما المطلق فلم يتعرض فيه للأعيان المتميزة بقصد، لكنه من ضرورة الواقع، فهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وهو وإن قيل: هو واجب فهو واجب في الفعل، وهو مخير فيه، فاختياره لإحدي العينين لا يجعله واجبًا عينًا، فتبين بذلك أن تعيين عين الفعل وعين المكان ليس مأمورًا به، فإذا نهى / عن الكون فيه لم يكن هذا المنهي عنه قد أمر به؛ إذ المأمور به مطلق، وهذا المعين ليس من لوازم المأمور به، وإنما يحصل به الامتثال كما يحصل بغيره. فإن قيل: إن لم يكن مأمورًا به فلابد أن يباح الامتثال به والجمع بين النهى والإباحة جمع بين النقيضين، قيل: ولا يجب أن يباح الامتثال به، بل يكفي ألا ينهى عن الامتثال به، فما به يؤدي الواجب لا يفتقر إلى إيجاب ولا إلى إباحة، بل يكفي ألا يكون منهيًا عن الامتثال به، فإذا نهاه عن الامتثال به امتنع أن يكون المأمور به داخلًا فيه من غير معصية. فهنا أربعة أقسام: أن يكون ما به يمتثل واجبًا؛ كإيجاب صيام شهر رمضان بالإمساك فيه عن الواجب. وأن يكون مباحًا؛ كخصال الكفارة؛ فإنه قد أبيح له نوع كل منها، وكما لو قال: أطعم زيدًا أو عمرًا. وألا يكون منهيًا عنه؛ كالصيام المطلق، والعتق المطلق، فالمعين ليس منهيًا عنه، ولا مباحًا بخطاب بعينه؛ إذ لا يحتاج إلى ذلك. والرابع: أن يكون منهيًا عنه؛ كالنهى عن الأضاحي المعيبة، وإعتاق / الكافر، فإذا صلى في مكان مباح كان ممتثلًا لإتيانه بالواجب بمعين ليس منهيًا عنه، وإذا صلى في المغصوب فقد يقال: إنما نهى عن جنس الكون فيه لا عن خصوص الصلاة فيه، فقد أدى الواجب بما لم ينه عن الامتثال به، لكن نهى عن جنس فعله، فبه اجتمع في الفعل المعين ما أمر به من الصلاة المطلقة وما نهى عنه من الكون المطلق، فهو مطيع عاص. ولا نقول: إن الفعل المعين مأمور به منهى عنه لكن اجتمع فيه المأمور به والمنهى عنه، كما لو صلى ملابسًا لمعصية من حمل مغصوب. وقد يقال: بل هو منهى عن الامتثال به، كما هو منهى عن الامتثال بالصلاة في المكان النجس والثوب النجس؛ لأن المكان شرط في الصلاة، والنهى عن الجِنْس نهى عن أنواعه، فيكون منهيًا عن بعض هذه الصلاة، بخلاف المنهى عنه إذا كان منفصلًا عن أبعاضها، كالثوب المحمول، فالحمل ليس من الصلاة. فهذا محل نظر الفقهاء، وهو محل للاجتهاد، لا أن عين هذه الأكوان هي مأمور بها، ومنهى عنها، فإن هذا باطل قطعًا، بل عينها، وإن كانت منهيًا عنها، فهي مشتملة على المأمور به، وليس ما اشتمل على المأمور به المطلق يكون مأمورًا به. ثم يقال:ولو نهى عن الامتثال على وجه معين، مثل أن يقال:/ صَلِّ ولا تصل في هذه البقعة، وخِطْ هذا الثوب ولا تَخِطْه في هذا البيت، فإذا صلى فيه وخاط فيه فلا ريب أنه لم يأت بالمأمور به كما أمر، لكن هل يقال: أتي ببعض المأمور به أو بأصله دون وصفه؟ وهو مطلق الصلاة والخياطة دون وصفه، أو مع منهى عنه بحيث يثاب على ذلك الفعل وإن لم يسقط الواجب، أو عوقب على المعصية؟ قد تقدم القول في ذلك، وبينت أن الأمر كذلك، وهي تشبه مسألة صوم يوم العيد، ونحوه مما يقول أبو حنيفة فيه بعدم الفساد. وأن الإجزاء والإثابة يجتمعان ويفترقان، فالإجزاء براءة الذمة من عهدة الأمر، وهو السلامة من ذَمِّ الرب أو عقابه. والثواب: الجزاء على الطاعة. وليس الثواب من مقتضيات مجرد الامتثال بخلاف الإجزاء؛ فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به، لكن هما مجتمعان في الشرع؛ إذ قد استقر فيه أن المطيع مُثَاب، والعاصي معاقب. وقد يفترقان، فيكون الفعل مجزئًا لا ثواب فيه إذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب، كما قيل: [رُبَّ صائم حظه من صيامه العطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر]، فإن قول الزور، والعمل به في الصيام أوجب إثمًا يقابل ثواب الصوم، وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به، والعمل المنهى عنه فَبَرِئَتْ الذمة للامتثال، ووقع الحرمان للمعصية. وقد يكون مثابًا عليه غير مجزئ إذا فعله ناقصًا عن الشرائط والأركان، فيثاب على ما فعل، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملًا. / وهذا تحرير جيد، أن فعل المأمور به يوجب البراءة، فإن قارنه معصية بقدره تخل بالمقصود قابل الثواب. وإن نقص المأمور به أثيب، ولم تحصل البراءة التامة؛ فإما أن يعاد، وإما أن يُجْبَر، وإما أن يأثم. فتدبر هذا الأصل، فإن المأمور به مثل المحبوب المطلوب، إذا لم يحصل تامًا لم يكن المأمور بريئًا من العهدة، فنقصه إما أن يجبر بجنسه، أو ببدل، أو بإعادة الفعل كاملًا إذا كان مرتبطًا، وإما أن يبقى في العهدة كركوب المنهي عنه. فالأول: مثل: من أخرج الزكاة ناقصًا؛ فإنه يخرج التمام. والثاني: مثل: من ترك واجبات الحج؛ فإنه يجبر بالدم، ومن ترك واجبات الصلاة المجبورة بالسجود. والثالث: مثل: من ضَحَّى بمعيبة، أو أعتق معيبًا، أو صلى بلا طهارة. والرابع: مثل من فَوَّت الجمعة والجهاد المتعين. وإذا حصل مقارنًا لمحظور يضاد بعض أجزائه لم يكن قد حصل كالوطء في الإحرام فإنه يفسده ، وإن لم يضاد بعض الأجزاء يكون / قد اجتمع المأمور والمحظور، كفعل محظورات الإحرام فيه، أو فعل قول الزور والعمل به في الصيام، فهذه ثلاثة أقسام في المحظور كالمأمور؛ إذ المأمور به إذا تركه يستدرك تارة بالجبران والتكميل، وتارة بالإعادة، وتارة لا يستدرك بحال. والمحظور كالمأمور؛ إما أن يوجب فساده، فيكون فيه الإعادة، أو لا يستدرك، وإما أن يوجب نقصه مع الإجزاء فيجبر، أو لا يجبر، وإما أن يوجب إثمًا فيه يقابل ثوابه. فالأول كإفساد الحج، والثاني كإفساد الجمعة، والثالث كالحج مع محظوراته، والرابع كالصلاة مع مرور المصلى أمامه، والخامس كالصوم مع قول الزور والعمل به. فهذه المسائل ـ مسألة الفعل الواحد ، والفاعل الواحد، والعين الواحدة ـ هل يجتمع فيه أن يكون محمودًا مذمومًا ، مرضيًا مسخوطًا ، محبوبًا مبغضًا ، مثابًا معاقبًا ، متلذذًا متألمًا، يشبه بعضها بعضًا ؟ والاجتماع ممكن من وجهين ، لكن من وجه واحد متعذر ، وقد قال تعالى:
قد كتبت فيما قبل هذا مسمى العلم الشرعي وأنه ينقسم إلى: ما أخبر به الشارع، أو عرف بخبره، وإلى: ما أمر به الشارع. والذي أخبر به ينقسم إلى: ما دل على علمه بالعقل، وإلى: ما ليس كذلك. والذي أمر به؛ إما أن يكون مستفادًا بالعقل، أو مستفادًا بالشرع، وإما أن يكون مقصودًا للشارع، أو لازمًا للمقصود. وكذلك اسم الشريعة والشرع والشِّرْعَة فإنه ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال، وقد صنف الشيخ أبو بكر الآجُرِي كتاب [الشريعة]، وصنف الشيخ أبو عبد الله ابن بَطَّة كتاب [الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية] وغير ذلك. وإنما مقصود هؤلاء الأئمة في السنة باسم الشريعة: العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق / كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر، ونحو ذلك من عُقُود أهل السنة، فسموا أصول اعتقادهم شريعتهم، وفرقوا بين شريعتهم وشريعة غيرهم. وهذه العقائد التي يسميها هؤلاء الشريعة هي التي يسمي غيرهم عامتها [العَقْليات] و[علم الكلام]، أو يسميها الجميع [أصول الدين]، ويسميها بعضهم [الفقه الأكبر] وهذا نظير تسمية سائر المصنفين في هذا الباب [كتاب السنة] كالسنة لعبد الله بن أحمد، والخَلاَّل، والطبراني، والسنة للجُعْفي، وللأَثْرَم، ولخلق كثير صنفوا في هذه الأبواب، وسموا ذلك كتب السنة ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة. فالسنة كالشريعة هي: ما سَنَّه الرسول وما شرعه، فقد يراد به ما سنه وشرعه من العقائد، وقد يراد به ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد به كلاهما. فلفظ السنة يقع على معان كلفظ الشرعة؛ ولهذا قال ابن عباس ـ وغيره ـ في قوله:{شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]: سنة وسبيلًا. ففسروا الشِّرْعةَ بالسنة، والمنهاج بالسبيل. واسم [السُّنَّة] و [الشِّرْعة] قد يكون في العقائد والأقوال، وقد يكون في المقاصد والأفعال . فالأولي في طريقة العلم والكلام، / والثانية في طريقة الحال والسماع ، وقد تكون في طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية. فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة. وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة، أو المذهب، أو الرأي. والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق. لكن قد يُغَيَّر ـ أيضًا ـ لفظ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات. ثم هي مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء: شرع مُنَزَّل، وهو: ما شرعه الله ورسوله. وشرع مُتَأَوَّل، وهو: ما ساغ فيه الاجتهاد. وشرع مُبَدَّل، وهو: ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع، أو البدع، أو الضلال الذي يضيفه / الضالون إلى الشرع. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم. وبما ذكرته في مسمي الشريعة، والحكم الشرعي، والعلم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك، والحمد لله رب العالمين. وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا، وقد قال الله تعالى: وحقيقة الشريعة اتباع الرسل، والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه، فقال: وهذه جملة تفصيلها يطول، غَلَطَ فيها صنفان من الناس: صِنْفٌ سَوَّغُوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله؛ لظنهم قصور الشريعة عن تمام مصالحهم؛ جهلًا منهم، أو جهلًا وهوي، أو هوي مَحْضًا. وصِنْفٌ قَصَّروا في معرفة قَدْر الشريعة، فضيقوها حتي توهموا ـ هم والناس ـ أنه لا يمكن العمل بها، وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها. والله أعلم. ومن العلماء والعامة من يرى أن اسم الشريعة والشرع لا يقال إلا للأعمال التي يسمى علمها علم الفقه، ويفرقون بين العقائد والشرائع أو الحقائق والشرائع، فهذا الاصطلاح مخالف لذلك. وأما قوله: وكذلك الأحكام الشرعية قد يراد بها ما أخبر بها الشارع بناء على أن الأحكام صفات للفعل، وأن الشارع بَيَّنها وكشفها. ومنها ما يعلم بالعقل ضرورة أو نظرًا، ومنها ما يعلم بهما، ويسمي الجميع أحكامًا شرعية، أو تخص الأحكام الشرعية بما لم يَسْتَفِد إلا من الشارع، وهذا اصطلاح المعتزلة وغيرهم من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم. وقد يراد بها ما أثبتها الشارع، وأتي بها، ولم تكن ثابتة بدونه، بناء على أن الفعل حكم له في نفسها، وإنما الحكم ما أتي به الشارع، وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم. ثم قد يقال: الحكم هو خطاب الشارع، وهو الإيجاب والتحريم منه، وقد يقال: هو مقتضي الخطاب وموجبه، وهو الوجوب والحرمة مثلًا. وقد يقال: المتعلق الذي بين الخطاب والفعل. والصحيح أن اسم الحكم الشرعي يَنْطَبق على هذه الثلاثة، وقد يقال: بل الحكم الشرعي يقال على ما أخبر به، وعلى ما جاء به من الخطاب ومقتضاه، وهذا ـ كما قلناه ـ في العلم الشرعي، فتدبر هذه الأصول الثلاثة: العلم الشرعي، والحكم الشرعي، والشريعة. والله أعلم.
|